لا أدري إن كنت محظوظا لأن عالمي كان صغيراً للغايه، زجاجيا وهشاً، ضبابيا كفاية ليقتل أي تطلعات لما قد يوجد خلف جدارنه، أم أنني قد فقدت نصف عمري الافتراضي على الأرجح في حلقة مفرغة من صراع الألفة والمجهول.
تزامن ظهور ملاحظاتي عن العالم مع بداية إدراكي لمحيطي الفيزيائي،اعتدت معها المثول كضحية متكررة لحوادث صعق متفرقه، لا أذكر ما الذي جذبني باستمرار لأجعل من جسدي مسارا بديلاً لما قد ينساب خلال تلك الأسلاك، عرفت بعدها أن لها إسما علميا، إلكترونات.. تنجذب إلى كل ما هو معدني حتى وإن أكله الصدأ، تدرك تلك الجسميات ذات الطبيعة الموجية طبائع الأشياء رغم جهلي بها، توقفت حوادث الصعق لاحقاً، واستمرت قائمة مخاوفي في التكاثر.
كانت بدايات إدراكي ساذجة ومتعثرة، تتقاطع معها أصوات عشوائيه تنفرد بها بيئتي الريفيه، أصوات حاولوا ربطها بمعان لم أفهمها أبدا..عواء، همهات، نحيب، طقطقات متتاليه لا تنتهي لصراصير الحقل، تزداد حدة تلك الأصوات الكئيبة كلما إزداد الليل ظلمة ولا تنتهي إلا مع ضوء الفجر، حين تصيح الديكه لتعلن السيطرة على المدى المتنوع من الأصوات.. حينها يبدأ عقلي في التمرد مرة أخرى.
أكرر داخلي الديكة لا تصيح مع أنوار الفجر، نشاطها عبثياً وحركاتها لا تخضع لأي علاقة خطية. دنداتي بعد غروب الشمس لن تجذب نحوي كل ما هو شرير، لا توجد حدقات دائريه تترصدني فوق دولاب الغرفة العتيق، الوحوش الفلكلورية ليست حقيقية، أشجار الجميز غير مأهولة بالتأكيد، شاطئ المجرى المائي المقابل آمن بعد صلاة العشاء بنفس القدر في الثامنة صباحاً. معدلات الأمان في عالمي منخفضة على كل حال. حينها لم تكن عندي شجاعة كافية للتأكد من فرضياتي، كنت أغمض عيناي هرباً في أغلب الأحيان، فالعقل الجمعي وإن بدا مهووسا يظل أكثر حكمة أمام تمرد عقلاني لطفل ساذج.
أكرر داخلي الديكة لا تصيح مع أنوار الفجر، نشاطها عبثياً وحركاتها لا تخضع لأي علاقة خطية. دنداتي بعد غروب الشمس لن تجذب نحوي كل ما هو شرير، لا توجد حدقات دائريه تترصدني فوق دولاب الغرفة العتيق، الوحوش الفلكلورية ليست حقيقية، أشجار الجميز غير مأهولة بالتأكيد، شاطئ المجرى المائي المقابل آمن بعد صلاة العشاء بنفس القدر في الثامنة صباحاً. معدلات الأمان في عالمي منخفضة على كل حال. حينها لم تكن عندي شجاعة كافية للتأكد من فرضياتي، كنت أغمض عيناي هرباً في أغلب الأحيان، فالعقل الجمعي وإن بدا مهووسا يظل أكثر حكمة أمام تمرد عقلاني لطفل ساذج.
إعتادت درجات السلم حملي لسطح البناء الوحيد الذي يختزل عالمي كله، أميل بجسدي لتحضنني الأرض مواجهاً الفضاء المائل للزرقة نهاراً ، الداكن ليلا أتابع في عجب نقاط النور المتناثرة وينقبض صدري لذلك!.
لا أدري لماذا يصيبني التحديق في ذلك الفراغ الداكن الذي يكتنف عالمي بخوف ورهبه لا تملك أمامه تلك النقاط البيضاء المضيئه أي فرصه لإذابة مخاوفي.
قرأت يوماً أن كل نقطة مضيئة هي أثر لشئ مهيب كان وانقضى، نجم قد انطفأ بعد سنوات لا تستطيع محصلتي من الأعداد حينها حصرها، لكننا لن ندرك ذلك، سيفتقده آخرون. مفارقة غريبة تلك ، اعتدت أن أخاف من الظلام الشاسع بينما نقاط النور تُمثل في الحقيقة أشد مخاوف أي نظام حي، الفناء! دليل مضئ تحكمه فيزياء كمومية.. نور سينفجر يوما ليبتلع كل الأنوار ويستحيل كله إلى ظلمة حلقية، سأعرف بعد سنوات إسما علمياً آخر، ثقب أسود!
يسير الزمن بشكل روتيني حتى الثلاثين ثم يبدأ في الإضطراب. يتباطأ ويتسارع، يميل إلى الأمام والخلف، يحاكي سيناريوهات تصلح كمادة لأحد أفلام نولان لكن تظل هناك علامات مبهرة حد العمى كضوء التلفاز الملون في بث مباشر إبان الغزو!
اللون الأبيض للفسفور الحارق والأحمر لبراكين النار يملأن سماء بغداد وكل نقاط الشاشه تصيح بلا تحذير مسبق، فعلها الأمريكان، كبرياء الأسد الجريح قرر الإنتقام من كل شيء يحمل إسما عربياً، أشخاصاً، أماكنَ، طرقاً سريعه، كل شئ أصبح هدفاً لكل أنواع القنابل الموجهه أو حتى الغبية. إستمر الأمر لسنوات، وأصبح شيئا معتاداً يتخلله محطات مميزة في محاولات الغرب لغسل السمعة، أعدُم صدام، قُذف الحذاء في وجه بوش، أعُيد الإعمار، لكن شيئاً لم يعد أبداً كما كان.
.
لم تمضي سوى بضع سنوات لكني لم أعد أتذكر أسماء أولائك الأشخاص بشكل كاف يمكنني من إعادة التواصل معهم، يزعجني أن ذاكرتي تخونني لكني أشعر بالارتياح رغم ذلك.
لا أتذكر هل إزدادت حساسيتي تجاه الأصوات، الأضواء، البشر وكل شئ يجبرني على درجات متفاوتة من التفاعل، أم أنني صرت
أنتبه لتفاصيل غير مهمه أكثر من اللازم.
لا أتذكر أن إحصاء حبات الأرز والبازلاء كان ضمن اهتماماتي اليوميه، وأن إنهاء كلا الصحنين معا في آخر ملعقه يعد إنجازاً شخصياً يسر أرفف الثلاجة الفارغة، ويزعج الحوض المجهز لاستقبال فوارغ الطعام.
أنتبه لتفاصيل غير مهمه أكثر من اللازم.
لا أتذكر أن إحصاء حبات الأرز والبازلاء كان ضمن اهتماماتي اليوميه، وأن إنهاء كلا الصحنين معا في آخر ملعقه يعد إنجازاً شخصياً يسر أرفف الثلاجة الفارغة، ويزعج الحوض المجهز لاستقبال فوارغ الطعام.
أستدعي من ذاكرتي بعض التفاصيل العلمية الركيكه عن فيزياء الثقوب السوداء وأنا أتابع انجذاب الماء من فتحة الصنبور إلى منتصف الحوض في سريان سلس وممل، لا أدري لماذا تتداخل الأشياء ويستحضر عقلي امورا في غير موضعها. أقطع أفكاري عن فيزياء الموائع بتقدير جالونات الماء المستهكله ومايصاحبها من أرقام في فاتورتها الشهريه بعد حساب معدلات التضخم. تنتهي جولتي في المطبخ ببطن نصف ممتلئه وعقل مشتت وأفكار مبتورة.
تصبيني محاولات فهم ذلك التناقض بحيرة ، تزداد كراهيتي للعالم بكل ما يملكة من مسببات للألم والمعاناة وتنتكس كراهيتي لما يحمله من قدرة على قتال الألم والنفاذ بأبسط صور الحياة عبر جدران المعاناة.. يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق