الجمعة، 18 يناير 2019

حصان تورينو!

تحت سماء لم تُلُبد بالغيوم، مُخالفة توقعات الأرصاد. وشمس مكتملة الاستدارة كثعبان ملتف حول جسده، مشغول بأكل ذيله. لم يكن هنالك ما يُثير الريبة، حتى الشتاء لم يكن مميزًا في شيء. كنت معتادًا على مشاهدة الصراع الموسمي -الذي ظننته أبديًا – بين مفاصل جدتي وصفوف البرد المتراصة ليلًا، الفارة صباحًا من خيوط شمس الضحى معلنة بداية الظهيرة، في طمس ضبابي للبدايات. روتينية ذلك اليوم بالذات جعلتني أسْقِطه من تقويمي الشخصي، لا أدري عمدًا أم مدفوعًا نحو لجوء دافئ لشواطئ النسيان. أدَرَكَتْ يومها دراجتي – على استدارتها – الحقيقة قبل أن يدركها عقلي وتثاقلت رغم وطء قدميّ الفتية. وَصلتُ لأجد الجلبة والنحيب الهادئ والصوت الممل لهمسات المتُحلقين في دروس النميمة. انتصر البرد في أواخر شتاء ذلك العام. ماتت جدتي ومات العود الموسمي.
****
على ارتفاع ستة آلاف قدم، يبدو العالم هَشًا كشارب نيتشه بعد أن مات الإله. تهتز الوريقات متوجسة من قدوم الخريف في صمت، مفزوعة من حقيقة السقوط الحر، عاجزة عن تغيير المصير. هل يبقى للوجود طور آخر ينجينا من جحيم العدم؟ إن محاولات الخلق للنجاة جميعها ترنو للخلود والأبدية، تجد فيها عزاء لبؤسها. يبتسم المغدور على درجات المقصلة، ويتمتم المصلون في سكينة متزامنة مع أبواق الحرب. أصبح العالم في حاجة لخلود دنيوي يعوضه عن رعبه اللانهائي مذ أن ضاع المستقر الأخروي. كانت شمس أغسطس من عام 1881 تُرسل مددًا مُتصلًا لا ينضب. تكاد تشعر من فرط التوالي أن خيطًا منُعقدًا – كمصعد بين الأرض والسماء – يهبط حاملًا دفء الجَوْنَة، يومها هبط شيء آخر على رأس فريدريك، طوق نجاته الذي صاغه بعبقرية المجنون «كل شيء يغدو، وكل شيء يعود، وإلى الأبد تدور عجلة الوجود. كل شيء يبيد، وكل شيء يحيا من جديد، وإلى الأبد تسير سُنة الوجود». عرض نيتشه أطروحته مفاخرًا رغم أنها لم تعدُ سوى فكرة اصطدمت بجبينه دون بحث مسبق أو عرض مفصل، لكنه انطلق بها. طال الزمان أو قصر، فقوانين العود صارمة، تلعب التكرار وتعيد ضبط تفضيلاتنا إلى معايير النموذج الأول، فما وُجد يومًا على هذه الأرض سينبعث، كل ما عايشنا سينبض، سينجذب، سيتقابل، سيلتحم ويفسد بعضه بعضًا كما فعل دومًا.
****
«أنا أحتقر القصص، دومًا ما تضلل الناس للإيمان بأن هنالك ما يحدث، والحقيقة أن لا شيء يحدث على الإطلاق، ننتقل من طور لآخر وينتصر الزمن» – بيلا تار.
في مشهد افتتاحي يسيطر فيه الداكن على الإطار، يتألق فيه سكون متحرك، لا شيء يحدث فعلًا! إلا أننا لا نملك القدرة على الالتفات بعيدًا، نراهن أن شيئًا سيسقط، فنخسر الرهان. تعبث موسيقى (Mihaly Vig) بعقولنا، لنضع قدرًا آخر من التركيز. لا نعرف عن الحصان شيئًا، سوى شعره المتساقط، مشيته المترنحة وبقايا برص أصاب جلده فوق موضع التعليق. يسير بلا وجهه. يدور جهاده حول (ربما) ليصل إلى نفس النتيجة، طمس آخر للبدايات. تتباطأ حركته – لا ندري – أم تتباطأ كاميرا «بيلا تار». فقد الحصان إيمانه بانكسار الدورة وأصبح على شفا اليقين بأن معاناته تتجدد في مسار مغلق لا خلاص منه. تمرده في اليوم التالي لم يكن سوى محاولة للفكاك، رأى بعينه من تحت المخلاة المعلقة برأسه، كيف تبدأ النهايات، أحس بذراعين تلمسان ما بقي من شعر صهوته، ودمعًا دافئًا يسيل فوق وجنته، ثم سمع هاتفًا يقول «أمي، أنا أحمق». حينها تمنى لو يتبدل يقينه بحقيقة أخرى وأن الموت يعقبه فناء أو خلود بلا عود آخر، عالم آخر تختلف فيه الألوان، يأكل فيه الناس شيئًا غير البطاطس ويتذوقون طعمًا مختلفًا عن كؤوس البراندي. عالم يلحق الناس فيه بالقطار، يلتفت فيه الراجل إذا اصطدم بكتف أحدهم، ويتوقف الباعة الجائلون عن النداء من أجل اللاشيء.
****
«التاريخ يُعيد نفسه» – مجهول.
تلوح نهاية التل في الأفق، لوهلة يَقع ذلك البائس ضحية لسراب deja vu، يَنفُض رأسه ويدفع أكثر. يبذل جهدًا مضاعفًا لئلا يتساءل عن معنى ما يفعل. قبل خطوات من رأس التل، تخدعه حمولته الصخرية وتنهي طريقها إلى البدايات. ينظر سيزيف إلى السماء ناقمًا على زيوس، ويعود ليبدأ تكراريته المملة. يبدو التحدي السيزيفي الذي جسده ألبير كامو، رمزًا للعدمية اللانهائية واللامعقولية لأهداف الإنسان، إلا أنه وعلى وجه آخر يبرز بوضوح ذلك الخوف الفطري تجاه حقيقة الوصول. كيف تكون نهاية حلقة لا تنتهي من الدورات؟ كيف تبدو النهايات؟ ومتى ظهرت البدايات؟ جاءت فكرة العود الأبدي لتخلص الإنسان من خشية المصير، من تساؤلاته التي تتساوى وزنًا مع حمل سيزيف الصخري، دافعة نفس الإنسان إلى قبول الحياة بمعاناتها وعدميتها. الحياة التي يتقبل فيها حقيقة وجوده، ويؤمن أن نعيمه في أن يعود، وأن خداع حمولته سيتكرر دومًا في لحظة ما قبيل وصوله، فالزمن ينتمي للآلية مذهبًا. روحه تتجذر في الوظيفية المطلقة لإعادة إنتاج الماضي. لكن نيتشه لم يقف مكتوف الأيدي وشبح الآلية يهدد نفوس المتحررين بسوط الزمان الذي انقضى، فيقول في الخلاص على لسان زرداشت «إن الإرادة لعاجزة عن أن تريد ما مضى. وفي عجزها عن تحطيم الزمان وجشعه أساها الأوحد». أراد بهذا الاحتيال النفسي إيهام الإنسان الأعلى بقدرات ثانوية تُمكنه من بسط يده على مساره. لكنها لم تُنقذ أحدًا. فما زالت صخور اللامعنى تخالف قوانين الطبيعة وتزحف لأعلى.
****
«الحياة الإنسانية لا تحدث إلا مرة واحدة، ولن يكون في وسعنا أبدًا أن نتحقق أي قرار هو الجيد وأي قرار هو السيئ، لأننا في كل الحالات لا يمكننا إلا أن نقرر مرة واحدة… لأنه لم تعط لنا حياة ثانية أو ثالثة أو رابعة حتى نستطيع أن نقارن بين قرارات مختلفة» – ميلان كونديرا.
نشأ الإنسان القديم وحيدًا في البرية. لم يعرف تاريخًا بعد. ملتصقًا بأساطيره، محاولًا إنتاج النموذج المثالي الأول الذي يستطيع تكراره حتى في طقوسة التعبدية، نموذجًا دائريًا يجلب الطمأنينة في قلب عواصف الليل الصارخة. كان خوف الإنسان من مفهوم التاريخ المنتهي عائقًا أمام تكثيف غرائزه نحو البقاء، حاول أن يشيد مقاومة للمفهوم التاريخي بمعاييره القياسية، لكن هشاشة النموذج لم تصمد أمام الفناء والكوارث والحروب. أصبح النموذج الأول مسخًا يتطلب قفزًا لحواجز المنطق. كانت بداية الاتزان عندما أدخلت الأديان السماوية طرحًا جديدًا عن الزمان المستمر. تحول التاريخ لقيمة تستمد ذاتها من قدمها، وبمرور الزمن تبدو عليه علامات الثراء، الزمن لم يعد عدوًا بالمعنى القديم بل ساهم في تثبيت معاني الأصالة التاريخية. استمد أصالته من التاريخ بل وسارع من أجل إنشاء مجده الخاص ليٍكُون تاريخًا في مسار الزمن المتُقدم. يُعيد الطرح التاريخي الإله الخالق لمسار الزمن كمسير وفي كثير من الأزمان كمتدخل بالتغيير. ليعود الصراع حول الزمن في الأساس إلى صراع حول الألوهية. بين فريق قتل الآلة وانتزع تصريف الزمان من بساط حكمته وفريق آخر سلم الإنسان لفلسفة لا تُنحي الألوهية المُصرِفة. يظل المسار الإلهي أكثر أخلاقية مما حاول نيتشه إثارته. يضمن للإنسان حرية مطلقة في اختيار مساره الذي سيحدد موضعه من التاريخ دون تدخل لقدرات الزمان. حاول نيتشه التمرد على المسار الإلهي بخلق عود أبدي آخر. لكن على عكس طبيعته، قبول ذلك تطلب منه إرساء قيم أخلاقية لهذا العود. يكون فيه الإنسان على بعد أخلاقي يتحمل فيه المسئولية حيال تصرفاته لأن ما يفعله سيظل يتكرر على هذا النحو مرات ومرات بلا نهاية.

Published: 22:18 20 مايو, 2017

هل أكلت الأديان أرواحنا أم أحيتها؟!

منذ أن وعى الإنسان وجوده وهو يمارس أنواعًا مُختلفة من النشاط غير المفُسر ماديًا، يرسم ويصلي، يصنع العبادات والأساطير، يعتنق المعتقدات وينصب الأوثان، يُعد طقوسًا وأنماطًا من السلوك تتعلق بمعاناته الأصلية، يبحث في دأب عن الشعائر ليؤديها. يَنقبُ الأرض بحثًا عن الخافية وسر الوجود، عن الخالق. يروي ظمئًا خفيًا، يُدعى الروح. عجزوا عن تصوره بالمعنى الملموس حتى في نظر أقرب الاتجاهات العلمية للنفس البشرية، ومن هنا كانت النطفة في رحم نقد الأديان.

يزعم "نيتشه" أن أفكار الدينيين كانت نتاجًا لأفكار المُمددين على أحجار مذابح الضعف والمتأخرين في سلسلة الافتراس الغريزي المميز للإنسان. كما يُلخص "ماركس" نظرته المعارضة في المأثورة الشهيرة "الدين أفيون الشعوب" متقاربًا بها مع "فرويد" في نقده للأديان حيث اعتبرها محاولات ذهنية لاستحضار وهم لقوى تعضده في صراعه الدائم مع الطبيعه الأرقى والأكثر تطورًا ووحشية. أو بشكل آخر، احتياج طفولي للرعاية وإيجاد الأب المجهول. بالنهاية، اتفقوا جميعًا على كون الدين فُلكًا يخوض بحارًا من الروحانيات غير الملموسة والتي تؤثر تأثيرا مباشرًا في وجود الإنسان بغض النظر عن فرضية حقيقتها أو اعتبارها وهمًا في عقول المُعتقدين.

*****
العبادة غاية أم وسيلة؟

تطورت أشكال السلوك التعبدي بتطور الإنسان الروحي، وإنطوت في جوهرها على خلاف جذري يدور حول حقيقتها. انتهى لجدلية تدور في دائرة مٌغلقة تبدأ بقوله تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" وتنتهي بقوله: "اعبد ربك حتى يأتيك اليقين".

هل خُلقنا كآلات منتجه للعبادة كما يقول الفاروقي في كتابه التوحيد:

||فهذه المهمة الجليلة هي علة خلق الإنسان، وهي الغاية النهائية للوجود الإنساني، وهي جوهر تعريف مفهوم الإنسان، ومعنى حياته ووجوده على هذه الأرض. وبمقتضاها يضطلع الإنسان بوظيفة كونية بالغة الأهمية. وما كان الكون ذاته ليكون على ما هو عليه||

أم أن هنالك شئ خفي يدعى (اليقين). سماه القرطبي والطبري بالموت، ليقطعا الطريق أمام محاولات تضمين العبادة لوسيلة والاكتفاء بطرح الوحي في قوله تعالى: "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم". بقدر أهمية المسألة الا أنها لم تشغل حيزاً فكرياً كبيراً وأجمع المفسرون الأصوليون على أن العبادة غاية وقد تكون وسيلة على وجه أخر يختص بجلب الرضا الإلهي، حيث تتحول العبادة لقيمة تجارية، ينال بها صاحبها خيراً. لم يتطرق أحد إلى التأثير التعبدي الذي يكون به الإنسان إنساناً، حيث يتجاوز وظيفة الوسيلة إلى غايتها، قد يُعتقد أن الأمر ليس هاماً لكن حينها فقط يمكن فهم منطلقات القاتل المستبد حين يحاذي قدميه في الصفوف الأولى للصلاة والدماء علي يديه لم تجف، وحينها نستطيع إدراك حقيقة الغاية وأنها متٌفردة لايمكن الوصول إليها إلا بإستثناءات.

يقول الزعيم والمفكر علي عزت بيجوفيتش:

||إننا نستطيع أن نميز بين نوعين من الأنشطة مُستقلين، منفصلين.. النوع الأول ينزع إلى تحقيق تَوقِ الإنسان الروحي الذي لا تفسير له إلى قيم الجمال بينما ينحو الثاني إلى مواجهة الإحتياجات الأساسية والمتطلبات المادية الوظيفية||

بهذا الشكل وفقط يمكن فهم العبادة كنسق فني له غاية، أصلها تحرير الروح وله وظيفة تسقط بها التكليفات. يُمكن رؤية حركات الصلاة كأنها انطباع للروح في الفراغ الماثل بين إنحدار الجسد بتلك الصورة الفنية والأرض المستوية كاللحد، أو رؤيتها جموداً كتلك التكليفات المحصورة في صورة أعداد تمثل تقويم الإنسان الملتزم الباحث عن النصر، والمجنون بالانجاز، الفاقد لروحه كلما ازداد انخراطاً في توظيف عبادته.

*****
||يمكن للدين أن يؤثر في العالم الدنيوي فقط إذا أصبح هو نفسه دنيوياً||
علي عزت بيجوفيتش
*****
يقول: "العبادة هي اسم جامع لكل ما يرضاه الرب من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة" (شيخ الإسلام ابن تيمية). يصمت برهة بعد إتمام وجبة العقيدة. تمر بعدها وريقة بيضاء فارغة الا من أسماء -يتحلق أصحابها- حول نقطة يرتكز فيها أحدهم، يملأها الجالسون باجابات تحمل نسباً طفيفة للخطأ تزداد أحياناً أو تقل وفقا للتدرج النسبي لأخواتها أو مقدرة الأخ على تجاوز مناطات الإحراج ثم تتعالى الهمسات بدعاء المجلس، إنتهى موعد رفع العبادات الشهرية المعتاد و إنصرف الأخْوان إلى دنياهم. يجلس وحيداً مُختلياً بنفسه، يسترجع ذلك الماضي القريب في بدايات عهده بأفكار الصحوة الإسلامية، يحاول جاهداً إستحضار مشاعره المُلتهبة فوق سجادة الصلاة، مشاعر المبتدئين الصادقة كما سماها، يهز صدره عسى أن تمر تلك الرعشة بين جنبيه، يفشل ويُنهي صلاته. باتت أفكاره حول الخشوع حجر عسره في طريقه للخشوع، ولا يعلم أين الخلل، فهو يجاهد وينتظر أن يتحقق الموعود الرباني "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا.." المؤسف أن ذلك لا يحدث. يتسائل مرة أخرى، أين الخلل؟

*****
استهلاك العبادة في صراع دنيوي تحت دعوى الحاكمية وسيادة الدين أو سعياً وراء مطالب مادية مشروعة فقهياً. يحول الدين برمته لمنتج إستهلاكي - ضُربت أسوار التعصب حوله - ليس ملكاً لأفراده، يحول العلاقة الفردية بين الإنسان وخالقة إلى شبكة مجتمعيه ومشاعاً للتنظيم، يقع هو في طرفها ويعترض الجمود باقيها. يصبح نقيب الأسرة ( الخلية البنيوية ) فيها المراقب والمقوم، يندثر مع الوقت المفهوم القابع خلف ورد المحاسبة ويصاب البصر المضروب على مدى خطوط العلاقة بالإجهاد، يكتفي البائس بوجود الواصله البشرية بينه وبين ربه بعد أن صنع حاجزاً على عينه، وهو المنغمس في عبادته إتماماً للدرج الصاعد نحو صرح الخلافة.

لا يدري هل أصبحت الخلافة صنماً يُعبد من دون الله!

هل صار العمل للدين منافياً لروح الدين، هل يفقد الإنسان إنسانيته ليكون إنساناً!

على الأرجح هو لا يدري، لذا هو لا ينقطع عن عبادته، يؤديها وينساها بإنتهائها. لم يفعل التنظيم سوى أن جعل عبادته روتيناً يومياً مميزاً، فهو يصادق سجادة المسجد ومحرابه عوضاً عن مناضد المقهى التي يتبناها رفاقه. علاقة أكثر سمواً بمفهومه الأخلاقي، لكنها نسخة أخرى من المُزيفات التي تملأ حياته. يتذكر متى أجهش بالبكاء عند تلك الآيه، مضى وقت طويل منذ أن حركت مدامعه وهو يسمع قوله " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " ! هل حُرف المصحف أم نٌسخت تلك الآية ؟ أم أصيبت قنواته الدمعيه بالجفاف. يعُيدها مراراً وتكراراً وهو ينشد " أراك عصي الدمع شيمتك الصبر .. أما للهوى نهي عليك ولا أمر ".

*****
يقول "روجيه كايو" في كتاب "الإنسان والمقدس" أنه إن يكن ثمة شئ يرجو المؤمن منه كل عون وتوفيق فهو المُقَدْس. إن الإحترام الذي يكنه له هو مزيج من الرعب والثقة، بدليل أنه يعزو مايتهدده من كوارث يسقط هو ضحيتها، وما يحققه أو يطمح إليه من إزدهار إلى عمل بعض المبادئ و القوى التي يبذل به مستطاعه من أجل ترويضها أو كبج جماحها. قلما تهم الطريقة التي يتصور بها المؤمن المصدر الأسمى للسراء والضراء".  تمثيل العبادة في فضاء الإسلاميين كأداة تقييم أو قناة إعداد، جعلهم يتصدون لطلقات المدافع الثقيلة بالتكبير، لا يدركون أنها عبرت أجسادهم مخلفة فجوات بعيارات مُختلفة إلا بانخفاض صدى صيحتهم. يتم أيضاً إعتبارالعبادة كوسيلة للتزكية المباشرة بمافيها العبادات التنظيمية الغيرمحققة شرعاً، والمأخوذة ظناً ثابتاً بالاجتهاد، لتصل بأحدهم إلى حافة قيادة كبرى الحركات الإسلامية ثم يخرج بعدها ليتحدث بصفاقة عن إرهاب المُنتمين وخداع الرؤوس المُطلة من فوهات المشانق، تلك التي تبادلت معه يوماً عبارة " أخي في الله "!
*****
السلطة والعبادة:
على الوجه الأخرمن ظاهرة تحويل العبادة لمنتج إستهلاكي يُقيم طبقية دينيه على إعتبارات ظاهرية.تظل السلطة رائدة الإنتهاز وإن تنافى مع مآربها، تجد فيه سلاحاً آخر. يقول: "بيجوفيتش" في الإسلام بين الشرق والغرب:

||إن كلا من الدين والثورة يولدان في مخاض الألم والمعاناة، يحتضران في الرخاء والرفاهية والترف، يدومان بدوام النضال، حتى إذا تحققا. يبدأ الموت يتسرب إليهما. ففي مرحلة التحقق يُنتجان مؤسسات وأبنية وهذة المؤسسات نفسها هي التي تقضي عليهما في النهاية، فإذا وجدنا خصوماً للثورة  في نطاق الدين فهوم خصوم ينتمون للدين الرسمي المؤسسي البيوقراطي الزائف||

*****
في مطلع خريف عام 1328 م، خيم الصمت المطبق على أرجاء قلعة دمشق. كعادته يجلس الشيخ الفاني بين أوراقه في إظلام تام، ضربات قلبة تتسارع على غير العادة ملبية نداء الحقيقة، يفقه لدنو الأجل رغم جدران زنزانته الموحشه. لم يرافقة المرض وحدته طويلاً ، لكن حركته بدأت في الخفوت، وبريق الحياة يتراقص في عينيه، يشق الليلَ صوتُ مؤذن الجامع، يسقط من أعلى برج المنارة يعلن عن رحيل الشيخ طريداً في سجن الحاكم بأمر الله.
*****
إن استحضار محنة شيخ الإسلام بن تيمية ومن قبلة الإمام أحمد بن حنبل بعيداً عن متواليات الإبتلاء والتمحيص وأنماط الثبات، يكشف بوضوح أن الحدثين كانا الأساس الفكري الذى أجلى علاقة الدين بالسلطة، بعد أن كان مُتخفيا بين نصوص فقهاء الإعتزال في العصور الأولى التالية الفتنة. فكما إختزلت الحركة الإسلامية حديثاً أشكال التعبد في توظيف أدواتي بالغ الجفاء من غير إعتبار للجنين المشوة، كانت السلطة تلتزم حرفياً بقانون رد الفعل وتنقل الصراع أحياناً إلى ساحات مذهبية، وتُقدم دائماً - في صدر جبهتها - الصورة النمطية للعابد المتصوف، حيث تؤسس الفروق الظاهرية أو السمت العام لأنماط أكثر قبولاً عند العامة، يتم بعدها الحشد المجنون، ليضغط ذلك الشاب الأمُي على زناد قومي أحمر يُشعل به فتيل الدماء وعبارة الشيخ تترد في رأسه " من قتلهم كان أولى بالله منهم ". أصبح النظام الإجتماعي بعد أول رصاصة مختومة بحبات المسبحه على شفا جرف هار. يقول : "مالك بن نبي" في ميلاد مُجتمع:

||العلاقة الروحية بين الله وبين الإنسان هي التي تلد العلاقة الإجتماعية في صورة القيمة الأخلاقية وهي التي بدورها تربط بين الإنسان وأخية الإنسان، فعلى هذا يمكننا أن ننظر إلى العلاقة الإجتماعيه والعلاقة الدينية معا من الوجهة التاريخية على أنهما حدث، ومن الوجهه الكونية على أنهما عنوان على حركة تطور إجتماعي واحد، فالعلاقة الإجتماعية التي تربط الفرد بالمجتمع هي في الواقع ظل العلاقة الروحية في المجال الزمني||

*****
السلطة والفن كالزيت والماء لا يختلطان. فإذا إعتبرنا العبادة نسقاً فنياً له دقة المنحوتات الأصلية وفي نفس الحال لايمكن التفريق بينها وبين المُزيفات منهن، يُمكن فهم لماذا يختلط الزيت أحيانا بالماء، ذلك يحدث فقط إذا لم يكن أحدهما كما نعتقد. ما الذي يجعل لوحة الموناليزا رمزية يتم منعها وحجبها بينما تُحرّق أخريات بالآلاف في رائعة ( Kurt Wimmer )  "إكويليبريوم" (equilibrium). وتحاط تلك اللوحه المهترئة في الواقع بأسوار من الحراسه بينما المزيفات تملأن الأرصفه ولا يبتاعهن أحد. ذلك أن المخطوطة الأصلية نُسجت من أوبار الروح، تحمل أخطاءاً فنية وإنحرافات في أطرافها، لكنها تعبر عن النقص البشري وروعه عدم الكمال، تجُسد الفطرية والمشاعر بين شعيرات الفرشاة حين تنساب فوق فراغ اللوحه التي فطر الله النفس عليها. لا يمكن التمييز بين نمطين للعبادة، فهي خصوصية بشرية تنبع من الجوانية للإنسان. ولا يرى منها الناظر سوى حركات لا تنبئ عن داخله شئ. يقول تعالى: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين".
Published: 14 مايو 2015 13:46


نحن لا نزرع الخوف.. بل نشتريه

"ما الذي يجعل المرء يتكئ بمرفقيه على تلك الدبابة دون الأخرى، يشعر بمعدنها البارد على جبهته ويضم صدره لتروس الدفع الخلفية. الاثنتان لهما نفس المُصنع في أغلب الأحيان. فقط الأولى وعدتهم بالأمن والثانية رفعت لواء الخوف أو هكذا قيل لهم…"
 
***
قبل عام ونصف..
يسير صديقي بعد صلاة العشاء في ذلك الطريق المؤدي لأطراف قريته، بعيداً -على غير العادة- عن اهتماماته أو أي جهة مألوفة للجميع. يظهر بصعوبة بناء قديم من الطوب اللبن -ظهرت عليه أشد عوامل الزمن قسوة- بين أستار الظلام واختفاء كلي للقمر في نهاية شهر آخر. يتقدم صديقي متململاً، يُمني نفسه بسهولة المهمة وسرعة انقضائها وبعض أحاديث النوايا والأجور، يطرق الباب في هدوء وينتظر، بعد مدة طويلة نسبيا يتهادى لمسمعه صوت مغلاق الباب يُفتح في بطء، يظهر خلفة ضوء خافت ومساحة صغيرة هي كامل مساحة البناء، حَزّمتها عيناه في لقطة أولى سريعة حتى التقتا بوجه صنعت فيه الأيام أعداداً لا نهائية من الخطوط والتجاعيد، ابتسم صديقي، سلم الوجه مظروفاً أبيض وانصرف.
صديقي الآن يبيت ليلته في مكان مجهول، على الأرجح في أحد أقبية الأمن الوطني. ليلته الوحيدة تتكرر يومياً وتعود لذلك التاريخ، يوم أن تًحدَتْ العجوز طبيعتها وعضلات وجهها الواهنة لتردد نشيد الفقد بحروف مبعثرة… "تسلم الأيادي"
اختفى صديقي ولم يترك خلفة سوى هاشتاج يحمل اسمه وشهرية مُتقطعة وعجوز خائفة!
 
***
"إذا أردت مجتمعاً متماسكاً .. فلابد أن يكون هناك شبح لعدو"
كارل شميت
 
***
في خضم الملهاة اليومية، يتحرك الميكروباص بتثاقل الذاهبين للجحيم. الراكبون تَعرقّوا رغم الطقس المُتقلب كحال الجالسين في المقاعد الخلفية الذين نالوا قسطاً من التعذيب والكدمات المتنوعة. أمامي مباشرة شخص يشبة الموظف الحكومي القياسي تماماً بملابسه وجريدته الحكومية المفرودة على مصراعيها. يتوسطها صورة بائسة باللونين الأبيض والأسود لإحدى علامات القرن الحالي "محمد سلطان ووالده". ملامح محمد تائهة كمتوحد، نظراته تَضرب اللاشئ، فمه مفتوح بلا سيطرة لجسده، يرتدي قبعة السجن وكُرسياً مدفوعاَ من والده. انتظ­­رت طويلاً وراقبت الجالس حتى حصلت على مرادي، تعليقا يُثبت يقين ما تنبأت، خرج من أطراف شفاه مرتعشه لا تدري ما تقول أو تقول ما لم تعتد.
"هما بيحاكموهم ليه، المفروض يعدموهم من غير محاكمات، خَلّي البلد تستقر والناس تاخد بتارها من الإرهابيين دول، اللي عَيشونا في رعب.."
لم أحاول إظهار صوت معارض بأي صورة، فقط عُدت للوراء بنصف عين متمنياً أن يعود السائق إلى هوايته المذمومة في إظهار قدرات التحكم بعجلة القيادة على السرعات القصوى.
 
***
"مَاعندكم يَنْفد … إلا الخوف!"
 
***
في إحدى العصور الغابرة الغير معرفة زمكانيا، الظروف تبدو مواتية لتنشأ الأسطورة. أيقن الحاكم أن قَدمه وطأت أرض الموت وأحس بدنو أجله، بعث لولديه فحضرا في الحال. أراد أن يختبرهما ليرى الأحق بعرشه. أحضر لكل منهما طائراً في قفصه، "الأمر بسيط، يكفي أحدكما أن يحتفظ بطائره في عنقه لخمس دقائق دون أن يقتله".
اندفع الأول فقبض على الطائر بكفيه، دق عنقه قبل أن يبدأ، الثاني بادر بحزم وترك لطائره الكفاية ليفكر، انسل الطائر هارباً عبر نافذة الشرفة المطلة على الساحة. غضب الحاكم ونادى: أن أحضرا ثالثاً. أمسك طائره، انتزع ريشه وفض ستر أمنه، وقف الطائر على حافة يده يرتعش لا يلوي على شئ، يخاف الطيران لئلا يقع بما فقد. اتجه الطائر للكف الآثمة وضم جسده في غطائها شاكراً، ابتسم الهالك في غموض، ورث إرثه لا العرش.
 
***
"الناس يخافون المجهول، يخافون المصير، يخافون الفوضى، يخافون الخوف…"
"لقد وضعت أمي توأماً .. أنا والخوف"
توماس هوبز
***
عندما نظَم هوبز عقده الإجتماعي، ووضع السيادة في يد الدولة لتحل محل الإله في الأرض، جرد الإنسان من خوفه الفردي المصاحب لحالته الأولى البدائية، ذريعته الأولى للقتال والوجود. حول الخوف لنسق عام يربط الإنسان إلى أخيه، جعل خوفه منحصراً في محيط السيادة المتمثلة في الدولة، أطلق عليها نظرية هوبز للخوف.
أصبح الخوف بعِقد هوبز أداة لتحكم الدولة في الشعوب، ومؤشرا لتحديد المصائر.
بالعودة للوحي كمركزية أولى، يُجمع علماء العقيدة أن الخوف منزلة من منزلتين مع الرجاء تكتمل بهما الثنائية في طريق البحث عن الحرية والإرتقاء الروحي. تنظيم عبادة الخوف من الله باستحضارة كسيادة عليا تتحطم أمامها أصنام الدولة والقوميات واجب وقتي لدحر الزحف على روح الإنسان و وجودة من الأساس. الخوف من الله ليس خوفاً من قوى فوقية مجهولة أو خوفاً من المجهول كما يوجه أعداء الدينية، بل امتثالاً لعَقد نفسي أخر، يُعيد الإنسان لحالته الأولى بعد أن كاد يفقد القطع الأهم في بشريته.
ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ‏(ﻓَﻠَﺎ ﺗَﺨْﺸَﻮُﺍ ﺍﻟﻨَّﺎﺱَ ﻭَﺍﺧْﺸَﻮْﻥِ) وقال: ‏(ﻓَﻠَﺎ ﺗَﺨَﺎﻓُﻮﻫُﻢْ ﻭَﺧَﺎﻓُﻮﻥِ ﺇِﻥْ ﻛُﻨْﺘُﻢْ ﻣُﺆْﻣِﻨِﻴﻦَ‏)..
***

"People should not be afraid of their government, government should be afraid of their people"

V for Vendetta

Published:05/04/2015 - 4:25 م

السبت، 5 يناير 2019

المرات الأوائل

المرة الأولى دوماً محيره، هزائمنا الشخصيه تتدلى فيها كأوسمة من غبار، تذكرنا باخفاقاتنا وتمسح عتمة الأمل، تتبدل تقاويم الأيام التي وللمرة الأولى فقدت فيها الأشياء معانيها، المرة التي خفتت فيها إضاءة مصابيحك رويدا، تخبرك بأن عليها الرحيل وأنت لا تلتفت، تتابع انحصار ضوئها على حدود أرضياتك، تنبئك الظلال خبراً ينبغي أن يتكفل بوهمك، فيصيبك الضجر من الحقيقه، تتوهم أن هناك وقتا ورفاهية وحلم قد يطول لبضع ثوانٍ أخرى. تتعلق بستائر الظلمة على جدرانك، تدفعها بأطرافك نحو الأسفل، تقاوم ظلالا لم تكن تنتمي لك، تأمل أني يُكشط موعد الاستبدال من لصاقات المصنع، وتبحر دون أن تتكفل عناءُ النظر،  فتسقط على جِزعك مهزوماً جريحا بعد أن استقرت ظلالك في كل روحك.